وجهة نظر

الهجوم الدبلوماسي الناعم… حين تصوغ الرباط صوتها الخاص

بقلم: الدكتور عبد الإله طلوع – باحث في العلوم السياسية وقضايا الشباب

ليست الدبلوماسية في معناها العميق مجرد تحرك رسمي أو تمثيل خارجي، بل هي شكل راق من أشكال التعبير عن هوية الدولة، وامتداد رمزي لعقلها السياسي.

والمغرب، في السنوات الأخيرة، لم يكتفِ بالتفاعل مع النظام الدولي من موقع التابع أو المتأثر، بل انخرط بوعي استراتيجي في ما يمكن تسميته بـ”الهجوم الدبلوماسي الناعم”؛ أي ممارسة التأثير الهادئ والمستدام، بأسلوب يراكم الحضور بدل أن يراهن على الظهور المؤقت.

من اللافت في السياسة الخارجية للمملكة أنها انتقلت من مرحلة “التحصين الدفاعي” إلى منطق “المبادرة الذكية”، أي أنها لم تعد تكتفي بتحصين مواقفها التقليدية، بل باتت تقتحم دوائر جديدة من التأثير، وتفتح جبهات دبلوماسية في مناطق لم تكن بالضرورة ضمن مجالها الحيوي المباشر. وهذا التحول لم يكن اعتباطيا، بل نتيجة إدراك بأن الشرعية الدولية لا تمنح بل تبنى، وأن الاعتراف لا ينتظر، بل ينتزع بالذكاء الهادئ والتراكم الصبور.

ما يحسب للرباط أنها تمارس هجومها الدبلوماسي دون عنتريات لغوية، ودون شعارات فارغة، تقنع دون أن تهدد، وتفاوض دون أن تساوم على الثوابت، وتراكم الاعترافات والاتفاقات من أمريكا اللاتينية إلى إفريقيا، ومن آسيا إلى أوروبا الشرقية، بقوة الحضور الهادئ ومصداقية الخطاب.

ليس سرا أن قضية الصحراء المغربية أصبحت بوصلة هذا التوجه. فعدد الدول التي تدعم مبادرة الحكم الذاتي لا يقاس فقط بالكثرة، بل بالتنوع الجغرافي والنوعي، حيث باتت الرباط تحظى بدعم دول تمثل توازنات استراتيجية مختلفة، من دول دائمة العضوية في مجلس الأمن، إلى بلدان نامية صاعدة، وكلها ترى في المغرب شريكا جادا يمتلك من النضج السياسي ما يكفي لتحويل نزاع إقليمي إلى فرصة لبناء السلام.

هذا التمدد الدبلوماسي لم يكن لينجح لولا قدرة المغرب على ضبط توازنه بين الانفتاح على العالم والتمسك بثوابته، فهو من جهة ينسج تحالفاته وفق منطق المصالح المتبادلة، ومن جهة أخرى لا يفرط في قراره السيادي ولا في خطوطه الحمراء، بل إنه يبرهن في كل مرة أن بإمكان دولة من الجنوب أن تكون فاعلة في محيطها، من دون أن تكون تابعة أو صدى لغيرها.

في هذا “الهجوم الناعم”، لا يحتاج المغرب إلى لغة التهديد، بل يكفيه أن يحسن اختيار توقيت التحرك، ووزن الرسائل، وعمق الشراكات، فما يبنيه في الكواليس أقوى أحيانا مما يقال في المنصات، وما يحققه من صمت سياسي أنفع من كل الصراخ المؤقت.

الدبلوماسية ليست استعراضا. إنها هندسة دقيقة للزمن والموقع والصوت. والمغرب، على هدوئه، يهاجم. لا بالصخب، بل بالثقة.

مقالات ذات صلة

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى