
بقلم الدكتور عبد الإله طلوع، باحث في العلوم السياسية وقضايا الشباب
هل المجتمع هو من يخلق السياسة، أم أن السياسة هي التي تُعيد تشكيل المجتمع؟ ليس هذا مجرّد سؤال نظري، بل هو استدعاءٌ عميق لسؤال السلطة والمشروعية: من أين تبدأ الحركة؟ ومن يملك الكلمة الأولى في رسم معالم التغيير؟ هل تصدر السياسة عن الحراك الاجتماعي وتعكس موازين القوى المجتمعية؟ أم أنها سلطة قائمة بذاتها، تصوغ المجتمع وتعيد قولبة تصوراته وفق إرادتها وهندستها؟
طوال تاريخ الفكر السياسي والاجتماعي، ظلت هذه الجدلية قائمة في المنظور السوسيولوجي الكلاسيكي، كان يُنظر إلى السياسة باعتبارها انعكاسًا لبنية المجتمع وصراعاته، من “دوركايم” إلى “ريمون آرون”، ومن “نوربرت إلياس” إلى “بيير بورديو”، يتأكد الطرح القائل بأن السياسة لا تنشأ في الفراغ، بل هي نتيجة تفاعلات اجتماعية وثقافية، تنبثق من حاجة المجتمع إلى تنظيم سلطاته الداخلية وتوزيع الموارد الرمزية.
“بيير بورديو”، على سبيل المثال، لا يرى في الحقل السياسي سوى فضاء تتصارع فيه النخب على رأس المال الرمزي، حيث تُكتسب الشرعية من خلال التمكن من لغة السياسة، وضبط معانيها، والتحكم في آليات تمثيلها.
غير أن هذا الطرح يجد له تجسيدا حيا في تطور الحركات الاجتماعية والاحتجاجات المعاصرة. لقد باتت السياسة تُنتَج من القاعدة في كثير من السياقات، لا من القمة. فمن الشارع العربي إلى الحركات البيئية في الغرب، ومن النضالات النسوية إلى الحراك الشبابي، أثبت الفاعل المجتمعي أنه ليس متلقيا سلبيا، بل قوة قادرة على قلب المعادلات وفرض أولويات جديدة على الأجندات السياسية.
“تشارلز تيلي” كان من أبرز من دافعوا عن هذه الأطروحة، حيث اعتبر أن الحركات الاجتماعية ليست مجرد رد فعل، بل هي صيرورة تأسيسية لإنتاج الشرعية وتشكيل مؤسسات جديدة.
لكن، في مقابل هذا التصور، يظهر وجه آخر للجدلية: فماذا لو كانت السياسة قادرة على إعادة تشكيل المجتمع، ليس فقط من خلال القرارات السلطوية، ولكن عبر هندسات دقيقة للوعي والإدراك؟ إن الدولة الحديثة، كما صوّرها “ماكس فيبر”، لا تحتكر العنف المشروع فقط، بل تحتكر – أيضا – إنتاج الشرعية. فبواسطة المدرسة، والإعلام، والقانون، والسياسات العمومية، تصوغ السلطة تصورات الأفراد عن ذواتهم وعن علاقتهم بالجماعة والدولة. وهنا تتحول السياسة إلى منظومة ثقافية تنسج خيوط الوعي الجماعي.
في هذا السياق، يتعزز دور السياسة كأداة لصياغة المجتمع، لقد أصبحت أدوات التأثير السياسي تتجاوز المؤسسات الرسمية، لتشمل الفضاءات الرمزية: من القنوات التلفزية إلى وسائل التواصل الاجتماعي، ومن الخطاب الديني إلى السرديات الفنية. تصير السياسة قادرة على التسلل إلى لاشعور الجماعة، فتُعيد إنتاج القيم والمعايير والتمثلات، إنها هندسة ناعمة للعقول، تصوغ الأفراد كما يُعاد تشكيل الطين في يد الخزاف.
وهذا ما أشار إليه “ميشيل فوكو” في تحليله للبيوسياسة، حيث لا تتجلى السلطة فقط في المنع والقمع، بل في التوجيه الذكي للحرية ذاتها. و “نعوم تشومسكي”، من جهته، تحدث عن “صناعة الإذعان” التي تنجزها الديمقراطيات الحديثة عبر الإعلام وتوجيه الرأي العام، بما يحوّل المواطن إلى كائن يخال أنه يختار بحرية، فيما هو محكوم ببرمجة خفية.
في ضوء كل هذا، يصعب الحسم في من يُنتج من: المجتمع أم السياسة؟ نحن أمام علاقة جدلية لا تُختزل في خط سببي واحد. المجتمع، حين يمتلك أدوات التنظيم والتأثير، يُنتج سياسة تعبّر عن مطالبه.
والسياسة، حين تمتلك أدوات الهيمنة والإقناع، تعيد إنتاج المجتمع وفق منطق السلطة.
إننا لا نعيش فقط علاقة تأثير، بل شبكة تفاعلات معقدة، تتغير مع السياقات التاريخية، ومع تحولات الوسائط ووسائل التعبئة والسيطرة، في عصر الرقمنة، وتفكك السرديات الكبرى، وعودة الشعبوية، تزداد هذه الجدلية التباسًا.
فهل نحن أمام مجتمع ينتزع السياسة من يد النخب، أم أمام سياسة تُعيد تشكيل المجتمع في صورة السلطة نفسها، ولكن بأدوات أكثر نُعومة وخفاء؟
ربما يكون الجواب الأصدق أن المجتمع والسياسة يشتركان في إنتاج بعضهما البعض، في لعبة دائمة من التأثير والتأثر، وأن الفعل السياسي لا يُفهم إلا في علاقته بالبُعد الاجتماعي والثقافي والتاريخي الذي ينغرس فيه.
إن فهم هذه الجدلية شرط لفهم العالم، بل لفهم الذات أيضًا، لأن كل مواطن، في النهاية، هو نقطة التقاء بين ما يُمليه عليه المجتمع، وما تُسطره له السياسة.