
بقلم الدكتور عبد الإله طلوع: باحث في العلوم السياسية وقضايا الشباب
في عمق السؤال حول العنف المدرسي لا يكمن القلق من سلوك فردي شاذ، بل من مؤشر مقلق على تشقق المعنى داخل واحدة من أهم مؤسسات بناء الذات والمجتمع، فحينما يتحول التلميذ من متعلّم متطلّع إلى متمرّد غاضب، وحين يفقد الأستاذ هيبته، ويتحول الفصل الدراسي إلى حلبة فوضى، فإننا لا نعيش فقط لحظة اختلال تربوي، بل انهيارًا صامتًا لمرجعية المدرسة كجهاز رمزي لإنتاج القيم.
العنف هنا ليس فقط ضربًا أو شتمًا، بل تعبير عن فراغ وجودي عميق. فالتلميذ الذي يعتدي، يفعل ذلك لأنه لم يعد يجد في المدرسة جوابًا لأسئلته، ولا انعكاسًا لهويته، والمدرسة التي تعجز عن الإجابة، هي نفسها ضحية منظومة تتعامل مع التربية كأرقام ومؤشرات، لا كفعل إنساني منتج للكرامة والمعنى.
إن من الخطأ اختزال الظاهرة في بعدها السلوكي، أو تفسيرها بتبريرات نفسية سطحية، فالعنف المدرسي هو نتاج تفاعل معقد بين السياق الاجتماعي العام، وفقدان البوصلة داخل منظومة التعليم، وتحوّل المدرسة إلى واجهة شكلية تخفي خواءًا معرفيًا وتربويًا عميقًا.
فما نعيشه اليوم هو فقدان جماعي للتوازن: تلميذ هشّ يبحث عن ذاته في الفوضى، وأستاذ متآكل يبحث عن رمزيته وسط لامبالاة مؤسساتية.
ولا يمكن فهم هذا العنف دون استحضار التغيرات القيمية الكبرى التي يعيشها المجتمع، لقد انتهت المدرسة بوصفها امتدادًا للأسرة، ولم تنجح الدولة في جعلها امتدادًا للعدالة الاجتماعية.
التلميذ القادم من حي مهمّش لا يدخل الفصل بسلاسة، بل يحمل معه أحمالًا من العنف الرمزي اليومي: عنف الفقر، التفاوت، التحقير، واللاجدوى. والمدرسة التي يُفترض أن تردّ عليه بالاحتواء، تُجيبه أحيانًا بالإقصاء أو التجاهل.
المقاربة الوقائية هنا لا تبدأ من الكاميرات أو رجال الأمن، بل من إعادة تعريف المدرسة باعتبارها مؤسسة للكرامة. فلا يمكن لفضاء مأزوم أن ينتج مواطنًا سليمًا، فالمطلوب ليس فقط قوانين صارمة، بل خطاب تربوي جديد، يربط المدرسة بسؤال المعنى، ويمنح التلميذ مكانة الوجود لا مجرد الحضور.
وحين يغيب المعنى، يصبح الجسد وسيلة التعبير الوحيدة، فالعنف هنا ليس تمردًا فوضويًا، بل لغة بديلة حين تصمت كل اللغات الأخرى. لذلك، وحدها فلسفة تربوية تنطلق من الإنسان بوصفه غاية لا أداة، ومن المدرسة باعتبارها مشروعًا ثقافيًا لا فقط مؤسّسة إدارية، يمكن أن تضع حدًا لهذا الانحدار الجماعي.
في النهاية، العنف المدرسي ليس مشكل المدرسة فقط، بل عرضٌ واضح لخلل أعمق في بنية المجتمع، وعلامة على عجزه عن منح شبابه أفقًا للمعنى. وما لم نُعد للمدرسة دورها كرافعة للتحول الثقافي، فسنواصل معالجة العنف بوسائل أكثر عنفًا، دون أن نفهم أن مصدره الحقيقي هو هذا الفراغ الوجودي القاتل الذي يبتلع تلاميذنا بصمت.