
بقلم: عبد الإله طلوع – باحث في العلوم السياسية وقضايا الشباب
في مجتمع يعاني من أعطاب بنيوية على مستوى المدرسة والمحيط، يبرز التوجيه المدرسي كواحد من أهم المداخل الكفيلة بتصحيح المسار التعليمي والنفسي والتكويني للمتعلمين والمتعلمات، فالتوجيه المدرسي ليس مجرد إجراء إداري، بل عملية تربوية استراتيجية تؤثر في مصير التلميذ، وتساهم في بناء شخصيته، وتحديد آفاقه المستقبلية.
لكن، هل نمارس فعلاً توجيهاً مدرسياً بالمعنى الحقيقي؟ أم أننا نكتفي بإلقاء “نصائح تقنية” تفتقر إلى البعد الوجودي والبيداغوجي؟ وما الذي يجعل التلميذ، وهو في سن حرجة من عمره، يختار مساراً دراسياً قد لا يناسبه؟ ومن المسؤول عن الاختيارات العشوائية التي تكرّس الهدر التربوي وتُنتج شباباً بلا بوصلة؟
1. التوجيه المدرسي: فلسفة أم آلية؟
التوجيه المدرسي في فلسفته العميقة يجب أن يُبنى على تصور شمولي للمتعلمين، يأخذ بعين الاعتبار قدراتهم، ميولاتهم، أوضاعهم الاجتماعية، وتطلعاتهم المستقبلية، فهو حوار بين الذات والمحيط، بين الرغبة والواقع، بين الحلم والإمكان. لكن، ما نلاحظه في الواقع هو اختزال هذه العملية في تعبئة استمارات ومتابعة نقط، دونما استحضار لعمق القرار الذي يُطلب من تلميذ في سن الـ15 أن يتخذه بشأن مستقبله.
2. التوجيه والتمايز الطبقي: من يختار فعلاً؟
من خلال تتبع مسارات آلاف المتعلمين، يتبين أن التوجيه المدرسي كثيراً ما يعكس تفاوتات طبقية ومجالية، فالتلميذ القروي، أو المنتمي لأوساط هشة، غالباً ما يُوجَّه إلى تخصصات مهنية أو شعب هامشية، بينما يُمنح أبناء المدن الكبرى وأصحاب الرأسمال الثقافي والاقتصادي فرصاً أوفر لاختيار مسارات علمية أو دولية.
ألا يُعيد هذا إنتاج الفوارق بدل أن يكون أداة لتجاوزها؟
3. التوجيه كرافعة نفسية وتكوينية
الاختيار الواعي لمسار دراسي لا ينعكس فقط على مستقبل التلميذ الأكاديمي، بل يؤثر مباشرة على صحته النفسية ودافعيته للتعلم. فالتلميذ يعرف لماذا يدرس، يشعر بأن له هدفاً، وأن المدرسة وسيلة لا عبء، هنا تبرز أهمية المصاحبة النفسية والتربوية في عملية التوجيه، والتي ما تزال غائبة أو هشة في الكثير من المؤسسات التعليمية.
4. من أجل توجيه تربوي لا بيروقراطي
ينبغي إعادة الاعتبار لمهنة المستشار في التوجيه، وتكثيف حضوره داخل المؤسسات، وتطوير آلياته وأدواته بما يواكب التحولات السوسيومعرفية والتكنولوجية، كما يجب إدماج الأسر في هذه العملية، لا باعتبارها طرفاً خاضعاً، بل شريكاً فاعلاً.
5. التوجيه ومشروع الحياة: المدرسة كبوصلة لا كمصنع
أليست وظيفة المدرسة في نهاية المطاف أن تساهم في بناء مشروع الحياة لدى الناشئة؟ أليس التوجيه هو أحد تجليات التربية على الاختيار، وتحمل المسؤولية، وبناء الذات؟ لماذا نربط النجاح الدراسي فقط بنتائج المراقبة المستمرة، ولا نفتح المجال لتلاميذ يبدعون في مجالات فنية أو حرفية أو اجتماعية؟
إننا اليوم، في ظل التحولات العميقة التي يعرفها المجتمع وسوق الشغل، في أمسّ الحاجة إلى إعادة التفكير في التوجيه المدرسي بوصفه أداة لبناء الإنسان، لا مجرد قنطرة تقنية نحو “النجاح الأكاديمي”.
فمن لا يُوجَّه جيداً، غالباً ما يُقصى. ومن لا يختَر بحرية، لن يتحمل مسؤولية اختياراته لاحقاً