
الدكتور مصطفى بلعوني: مؤرخ متخصص في التاريخ المعاصر والراهن
أصبحت الظروف الدولية والعالمية مواتية للحديث عن الحقائق التاريخية لوحدتنا الترابية. وخاصة عند انتهاء الحرب الباردة وسقوط جدار برلين وانهيار سياسة المحاور في العالم. وأصبح الترتيب العالمي من جديد في إطار تقسيم الدولي للعمل .وظهور قوى صاعدة اليوم لابد من خلق التوازن العالمي في مسرح الأحداث. والذي ينذر بتكتلات جديدة سياسية واقتصادية تطرح قضية تشكيل الأقطاب على أساس اقتصادي .وكلما تكتلت الدول والمجموعات من جديد تقلصت اللوبيات الاقتصادية والسياسية القديمة الكلاسيكية .المتمثلة في أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية .
خاصة اوروربا ذات التاريخ المصاحب بالاستعمار والاحتلال والسيطرة والعنف بالتدخل بالقوة وتغيير خرائط الدول في أفريقيا وآسيا بما يتماشى مع أهداف الاستعمار لترويض الشعوب المحتلة والمستعمرة بأشكال عدة وتحت يافطات مختلفة منها نشر رسالة الرجل الأبيض والمدنية “المفترى عليها ” ووصول الشعوب إلى التقدم والتطور .أو ترويض الشعوب على الديمقراطية وحقوق. الإنسان ونشر الحرية والعدل والمساواة .إذن في هذا الإطار وفي هذه السياقات التاريخية .مكتت الدولة المستعمرة سنوات بل قرونا في هذه الدولة المستضعفة .لاستنزاف خيراته وتحويله إلى أسواق لبيع سلعته .
وهذا لا يتأتى إلا بإحكام السيطرة على تلك الشعوب بسن قوانين وتشريعات تسهل عملية الاستغلال والاستنزاف وتجويد القوانين المحلية لترويض الشعوب. مرة بالإقناع ومرة بالعنف والتهديد .حتى استتب الأمر نهائيا للدولة المستعمرة .
إن هذا الزخم التاريخي والتطور لم يأتي دفعة واحدة .إنه كان في طور التكوين عندما تحولت المجتمعات الأوروبية إلى مجتمعات صناعية احتضنت الثورة الصناعية والتجارية .
وهكذا بدأ التحرك الأوروبي لإعطاء تبريرات من أجل الاستعمار.
لأن المصانع كانت في حاجة إلى المواد الأولية والاستراتيجية
إدارة عجلة الاقتصاد. وهكذا بدأت الدولة الأوروبية تتنافس فيما بينها حول الخروج من اروربا والاتجاه نحو أفريقيا المتخلفة وآسيا المريضة .
وهكذا كان مؤتمر مدريد سنة 1880 م الذي حضرته 14 دولة أوروبية حول ما سمي بـ الاهتمام “بالتجارة بالمغرب والحماية القنصلية” وقد طرحته بريطانيا حول المساواة في الحماية القنصلية وفتح أسواق التجارة الخارجية والمساواة بين الدول المشاركة في المؤتمر وخاصة اسبانيا وهولندا .وبلجيكا لأن فرنسا والإنجليز كانوا لهم حمايات قنصلية في المملكة الشريفة ولم يجد السفير أو ممثل المغرب علي بركاش من الدفاع عن مصالح المغرب أمام طموحات الأوروبيون للدخول والاستحواذ على التجارة بالمغرب .وقد وقع المجتمعون اتفاقية المساواة التجارية بين كل الأعضاء المشاركين في. المؤتمر وفشل المغرب للتصدي لهؤلاء وكان هذا ادانا ينذر بـ التمهيد لاستعمار المغرب من قبل فرنسا التي ركزت على المغرب وبينت على أطماعها التوسعية انطلاقا من. الجزائر ثم احتلت تونس في نفس السنة التي انعقد فيها مؤتمر مدريد .
وفي نفس الظرف السياسي والتاريخي دخلت إسبانيا إلى شمال المغرب للاحتلال تطوان بموجب اتفاقية وادي تافنة سنة 1845م حيث دخلت سنة 1849م واحتلت جزيرة ليلى عنوة ولم تكن طرفا في الاتفاقية أو في المفاوضات وتصرفت بناء على الاتفاقية دون توقيعها وبعد ذلك ظهرت لها أطماع توسعية في شمال المغرب حيث توغلت إلى أن وصلت إلى تطوان حيث كانت معركة فاصلة بين الجيش المغربي وبين للجيش الغازي سميت بحرب تطوان في عام 1860م .فإن هزم فيها الجيش. المغربي الذي كان أغلبه من المتطوعة وأصحاب الرماية من الخيالة ويقول المؤرخ الناصري في هذا الشأن في كتاب الاستقصا .”هذه الهزيمة أزالت عن المغرب حجاب الهيبة ” حيث لم تكن هزيمة تقنية يمكن تداركها بل كانت هزيمة مجتمعية خلخلة البنيات الاجتماعية والاقتصادية وبينت بالملموس الفرق الواضح بين مجتمع مدعم بالنهضة الأوروبية وبين مجتمع يعيش فترات الانحطاط والتدهور .المجتمعي حيث يقول عبد الله العروي”تنفتح جغرافية المغرب مجالاتها على كل البحار غربا وشمالا وغير منغلقة من جميع الجهات شرقا وجنوبا لكن المجتمع شكل حاجزا حول تسرب المدنية الأوروبية والتقدم والتطور الذي عرفته أوروبا أثناء النهضة الأوروبية وبقينا حبيس سياسة الاحتراز “” في هذه الأجواء الدولية انعقد مؤتمر مدريد 1884م .حول تسهيل التجارة الخارجية وقال وزير خارجية بريطانيا ما وراء البحار “إذا ما تم اقتسام للمملكة الشريفة المغربية سوف تكون شية ابريطانيا مفتوحة ” وهكذا ازداد المحميون وكثرت الإعلام الأجنبية فوق المنازل وكثر الصرافة اليهود .وكانت فترة يمكن أن تكون استثنائية في عهد الحسن الأول نهاية القرن التاسع عشر عندما ارسل بعثة طلابية إلى أوروبا لكنها عند عودتها وجهت بالكفر و جيوب المقاومة من طرف الفقهاء المتزمتين .الذين سدوا باب الاجتهاد. و شكلوا قوة في المخزن المغربي وبدأ الصراع بين نخبة التي تطالب بالانفتاح لكنها انهزمت أمام الفقهاء المحافظين وعندما تكون فرصة اللقاء مع الأوروبيين تتحدث الرسائل الجوابية متضمنة عبارة “نعلهم الله ” “دمرهم الله “أي يقصد الأوروبيين .بلاد الكفر .
إذن كان الآخر متفوق علينا ولم تفلح الرحلات السفارية التي قام بها السفراء المغاربة إلى الديار الأوروبية أن تؤدي إلى أي نتيجة تذكر ليتني الأوروبيون على التحرش السياسي وإبرام اتفاقيات ومعاهدات الغير متكافئة مع المغرب. حيث نزل الاسبان إلى “حصن المقدس” أو” سانتا كروز” كما يسمى قبالة الساحل بتزنيت ومن ثم توسعوا إلى سيدي إفني وطرفاية تم الساقية الحمراء ووادي الذهب .
ولم تستطع رحلة السفاري السفير محمد الغسال الرحلة الإبريزية إلى الديار الإنجليزية أن تفلح في عقد اتفاقيات متكافئة تجارية سنة 1902 مع الإنجليز وغيرهم .
إن جدلية المتغير و المتجلي الأنا والآخر تفرض نفسها في هذه الظروف التي تعرف تحولات المجتمعات والدول هناك من يعرف تطورا ايجابيا نحو التقدم .و هناك من يتقهقر نحو الانحطاط .والتدهور تم أخيرا الاستعمار أو الاحتلال في صيغه المختلفة .
ولهذا سوف اركز على فترة زمنية في تاريخنا المعاصر والراهن هي أوصلتنا إلى الحقائق التاريخية لوحدتنا الترابية أو وحدتنا الوطنية في اطار مظاهرها الحالية الخفية او المتجلية أو المسكوت عنها .هذه الفترة الزمنية تبتدئ منذ أن نزل الإخوة بربروس خير الدين وعروج إلى السواحل الجزائرية شرقا سنة 1514 م باعتبارهم أمراء البحر ومجاهدين بحريين ووصلوا حتى تلمسان وأزالوا دولة بني عبد الواد الزيانية .ولم يتجاوزوها .لأن الدولة السعدية كانت بالمرصاد وجعلوا من واد تافنة حدا فاصلا بين الايالتين ،حاول العثمانيون التسلل والدخول إلى المغرب عبر بوابة الشرق وقد وصلوا إلى ضواحي فاس لكي يدخلوا إليها…لكن هنالك حيلة قام بها المغاربة اخلوا الطرق المؤدية إلى فاس طريق تيسا نواحي تاونات وقطعوا قنطرة وادي اللبن فقام الجيش المغربي من تدمير القنطرة لقطع خط الرجعة والإمدادات والتفوا حولهم.وابادتهم في معركة وادي اللبن .سنة 1558 م في عهد الله الغالب السعدي وانتقم المغاربة لقتل محمد الشيخ السعدي من طرف الأتراك. وبعد هذه المعركة طالب المغرب الدولة العثمانية بمبايعة السلطان المغربي .بحيث أسدل الستار نهائيا على الصراع العثماني السعدي المغربي وبقي النفوذ العثماني ما وراء وادي تافنة .وتفرغ السعديون لمواجهة الأخطار الأجنبية في السواحل المغربية من الأسبان والبرتغال.
وبالرغم من هزيمة الإسبان والبرتغاليين في معركة وادي المخازن سنة 1578 م لم يتراجعوا عن التوسع واحتلال الجزر .المتوسطية و الأطلسية .وهكذا اقتحم البرتغال والاسبان المجال البحري حيث قسموه كلما يوجد شمال تيزنيت فهو للبرتغال وكلما يوجد غربا فهو للأسبان .ولهذا ركز الاسبانيون على منطقة سيدي إفني وطرفاية والساقية الحمراء ووادي الذهب ابتداء من 1476 م وظلت في يد الأسبان حتى سنة 1524م عندما حررها السعديون ،لكن الإسبان رجعوا لها في نهاية القرن 19 وبالضبط بعد هزيمة المغرب في حرب تطوان وقد ضغطوا للعودة الى إقليم سيدي إفني .واحتلوها سنة 1865 م .
أما البرتغال فقد ركزوا على طول الساحل الأطلسي بدءا من الجديدة وآسفي والصويرة لأن المغاربة لم يتعاملوا مع البحر طوال تاريخهم الاان جاء الغزو منه حتى بدؤوا يعانون بالبحربقي المغرب محصنا إلى غاية سنة 1844م حدوده التاريخية إلى وادي إسلي عندما هب الجيش المغربي لنجدة الأمير عبد القادر الجزائري الوالي باسم الترك الذي طلب التدخل من السلطان مولاي عبد الرحمن العلوي حيث انهزم الجيش المغربي ووقعت الاتفاقية للامغنية التي أرهقت خزينة المخزن وجعلت من وادي تافنة الحدود مع فرنسا في الجزائر وكانت من” ثنية الساسي” المجال الترابي أي السعيدية انداك . حتى صحراء شنقيط اي الصورة والدورة وتوات وتخيلت وتندوف إلى عقد .الحماية الفرنسية على المغرب بموجب معاهدة فاس سنة 1912 م ففي 23 أبريل 1958 وزع المهدي بن بركة خريطة تثبت حدود المغرب التاريخية والطبيعية في كل مجال الصحراء الشرقية. انطلاقا من معاهدة تافنة والتي كرستها معاهدة للامغنية سنة 1845 م والتي كانت معتمدة في عهد الحسن الأول لسنة 1880 م ويقال أن عمل بن بركة جاء باستشارة من علال الفاسي ..وكان ذلك في 23 أبريل 1958 مؤتمر طنجة التاريخي بقصر مرشان الذي حضرته زعماء الأحزاب الثلاثة حزب الاستقلال ممتلا بعلال الفاسي والتجمع الدستوري ممتلا الباهي الأدغم وجبهة التحرير الوطني الجزائري ممثلا بفرحات عباس .رؤساء الوفود ..وقد أجل قضية الحدود مع الجزائر إلا أن تستقيل هذه الأخيرة.
كما أن مؤتمر الوحدة الأفريقية المنعقد أيام 4 إلى 7 يناير 1961 بالدار البيضاء وحضره زعماء كبار الملك محمد الخامس رحمه الله و جمال عبد الناصر وسيكوتوري واخوان نكروما .وهيلا سيلاسي و مودي بوكيتا وفرحات عباس رئيس الحكومة المؤقتة الجزائرية في المنفى ومحمد العلام الليبي ممثلا عن الملك إدريس السنوسي إلى آخره من الزعماء حيث ناقش قضية ياوندي وبوروندي التي أرادت تقسيمهم بلجيكا لأنهم كانوا تحت الوصاية الدولية .واستنكر المؤتمر ذلك واعتبر أنها دولة احتلال لاحق لها في النيابة أو تمثيلية الشعوب المعنية . كما أجل مناقشة الحدود مع المغرب والجزائر إلا ان تستقل هذه الأخيرة وهذا هو خطاب جلالة الملك محمد الخامس رحمه الله أثناء ترأسه للمؤتمر حيث تدخل الأشقاء والزعماء الأفارقة. وكان بإمكان المغرب الحسم في هذه المسألة لكن روابط الجوار والعروبة والاسلام والمصير المشترك دفع في اتجاه دعم تحرير الجزائر دبلوماسيا وعسكريا حتى حصولها على الاستقلال .إن تحريك التاريخ وتكليمه ودفعه لتبيان الحقائق التي تؤكد على حقوق المغرب التاريخية والشرعية والمشروعية في استكمال وحدة التراب الوطني .إن هذه الأحداث تتجاوز الشكوك والدسائس “والنظريات الوهمية” وهي حجية أكيدة لدحض هذه الأطروحات .والطموحات المفلسة .
أننا أظهرنا الخفي و قمنا بتقوية المتجلي من الأحداث والوقائع التي أدلينا بها لتثبيت وحدة التراب الوطني واسترجاع المتبقي منه .هذه هي مراجعتنا للوثائق التاريخية التي نحتفظ بها دون احراقها،للترافع عن الدفاع عن وحدتنا الترابية .