وجهة نظر

المدرسة والسلطة الرمزية: انحدار المؤسسة التعليمية في المغرب

بقلم: الدكتور عبد الإله طلوع
باحث في القانون العام والعلوم السياسية

لطالما كانت المدرسة في المغرب تمثل رمزا للمعرفة والسلطة الرمزية التي تحدد معالم الثقافة والمجتمع. في فترة معينة، كانت المؤسسة التعليمية هي الحقل الذي يزرع فيه الفرد القيم الوطنية، الاجتماعية، والأخلاقية، لتعود بالنفع على المجتمع بأسره. كانت المدرسة تقوم بدور عميق في تشكيل هوية الفرد المواطني، حيث كانت بمثابة مصنع لصناعة المواطن المثقف والمتفاعل مع محيطه الاجتماعي والسياسي.

وكانت المدرسة المغربية في أوجها في زمن مضى، تشكل دعامة أساسية من دعامات بناء مجتمع ذو ثقافة تعليمية راقية، تقوم على أساس المبادئ التعليمية التي تعزز من تطور وتقدم المجتمع. إن تراجع المدرسة عن هذا الدور، يجعلنا نتساءل عن ماهية التحولات التي أدت إلى هذا الانحدار، وكيف يمكن استعادة قوتها الرمزية.

التحولات الاجتماعية والاقتصادية:
إن التراجع الملموس لمكانة المدرسة في المجتمع المغربي لا يمكن فصله عن التحولات الاجتماعية والاقتصادية التي شهدها المغرب في العقود الأخيرة. فالمجتمع المغربي قد مر بانتقالات جذرية في بنية الاقتصاد الوطني، ورافق ذلك تطور ملحوظ في هياكل اجتماعية جديدة كانت قد أفرزت موازين جديدة للسلطة، ما أدى إلى تآكل القيمة الرمزية للتعليم. هل يعكس هذا التغير في دور المدرسة تراجعًا في قيمة المعرفة نفسها في المجتمع؟ أم أن المدرسة لم تعد قادرة على مواكبة هذه التحولات الاجتماعية التي لا تسير في نسق متسق مع رؤية تعليمية متجددة؟ هذه أسئلة قد تكون محورًا لفحص أعمق حول التغيرات التي تحدث داخل المجتمع.

ازدياد معدلات الفقر:
من جهة أخرى، تؤثر التحديات الاقتصادية والاجتماعية بشكل كبير على جودة التعليم في المغرب. فارتفاع معدلات الفقر، وتوسع الهوة بين الطبقات الاجتماعية، وتراجع ثقة المواطنين في المؤسسات الحكومية كلها عوامل ساهمت في تراجع تأثير المدرسة. وبخلاف الظاهر الذي يوحي بأن العوامل الاقتصادية وحدها تقف وراء تراجع المدرسة، قد يكون هناك تفاعل معقد بين عناصر ثقافية ومعرفية أخرى، فهل الفقر في حد ذاته هو السبب الأساسي في تدهور التعليم؟ أم أن هناك أزمة أعمق تتعلق بهوية المدرسة؟ هل تراجعت المدرسة عن وظيفتها كرافد للمعرفة بسبب فقدانها لروحها الرمزية؟ هل فقدت المدرسة قدرتها على إنتاج المعرفة؟ وهل فشل التعليم في تحفيز الشباب على البحث والتفكير النقدي بسبب عدم تحديث المناهج أم أن الأسباب تكمن في التحديات الكبرى التي يواجهها المجتمع ككل؟

فقدان هيبة المدرسة:
إن المدرسة المغربية لم تعد تحظى بنفس المكانة الاجتماعية التي كانت عليها في السابق. ففي المجتمع المعاصر، يعاني النظام التعليمي من تراجع ثقة المواطنين فيه. ولعل السبب الرئيس في ذلك هو فقدان المدرسة لمكانتها كسلطة رمزية، إذ أصبح يُنظر إليها اليوم كأداة لتأهيل الشباب فقط دون أن تؤدي دورًا أساسيًا في بناء وعي مواطني حقيقي. إن المدرسة، التي كانت ذات يوم تعد بمثابة معقل للمعرفة والإبداع الفكري، تحولت اليوم إلى مجرد محطة انتقالية نحو سوق العمل. فقد تحولت وظائفها الأساسية إلى مجرد تقديم معلومات تقنية معزولة عن أي غاية إنسانية أو فلسفية أعمق.

هل تساهم المدرسة في خلق ثقافة تعليمية قائمة على النقد والتفكير، أم أنها مجرد “مؤسسة استهلاكية” تهدف إلى إنتاج أفراد قادرين على تلبية احتياجات سوق العمل دون أن تعزز هويتهم الثقافية والاجتماعية؟ هل يمكننا أن نقول بأن المدرسة أصبحت في العصر الحالي مجرد آلية لتمرير المعرفة التكنولوجية دون أن تساهم في بناء المواطنة الحقيقية؟

التكنولوجيا ووسائل الإعلام:
لقد طغت وسائل الإعلام الحديثة والتكنولوجيا على دور المدرسة كسلطة رمزية في المجتمع. ففي هذا العصر الرقمي، أصبح الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي أداة رئيسية في تشكيل آراء الأفراد وتوجيههم ثقافيًا واجتماعيًا. هل أفرغت هذه العوامل الرقمية المدرسة من وظيفتها التقليدية كمؤسسة معرفية حاملة للسلطة الرمزية؟ وإذا كانت التكنولوجيا اليوم تعد مصدرًا أساسيًا للمعلومات، فهل يمكن الحديث عن تحول جذري في طبيعة المعرفة نفسها؟

إعادة التفكير في المدرسة والمناهج:
من هنا، يطرح السؤال الابستيمولوجي الأعمق: هل تراجع سلطة المدرسة يعود إلى تراجع قيم المعرفة التقليدية، أم أن هذا التراجع يعكس تطورًا معرفيًا يتطلب إعادة تعريف المعرفة نفسها؟ هل ينبغي إصلاح المناهج الدراسية لتواكب تطور العصر الرقمي؟ هل يجب أن تتغير فكرة المدرسة نفسها من مجرد مؤسسة تعليمية تقليدية إلى مؤسسة تفاعلية تربوية تسمح بتعدد مصادر المعرفة من الإنترنت والتجربة المجتمعية إلى جانب التعليم الرسمي؟

إن المستقبل لا يعتمد فقط على إصلاح النظام التعليمي، بل يتطلب أيضًا إعادة النظر في دور المدرسة كسلطة معرفية في سياق اجتماعي جديد. إن أسئلة من قبيل: هل يجب أن يكون التعليم عملية مفتوحة تعتمد على التجريب والابتكار؟ وهل يمكن للمدرسة أن توازن بين التقاليد الثقافية والاحتياجات العصرية؟ تصبح أسئلة جوهرية في سياق إصلاح شامل يلبي احتياجات المجتمع المغربي في مرحلة التحولات المعرفية الكبرى.

مستقبل المدرسة المغربية:
من الضروري أن نتساءل: هل من الممكن استعادة المدرسة قوتها الرمزية في ظل هذا الواقع؟ وهل يمكن تجديد العلاقة بين المدرسة والمجتمع؟ إذا كان الجواب بالإيجاب، فإن الإصلاح الجذري للنظام التعليمي يتطلب منهجًا متعدد الأبعاد. يجب أن يركز هذا الإصلاح على إعادة تفعيل دور المعلم ليس فقط كناقل للمعرفة، بل كمرشد اجتماعي وفكري يعمل على بناء القيم الحقيقية التي يحتاجها المجتمع المغربي.

إن تحديث المناهج الدراسية ليواكب التطورات التكنولوجية والاجتماعية، إضافة إلى تحسين ظروف المعلمين المادية والمهنية، سيكون خطوة نحو استعادة مكانة المدرسة كسلطة رمزية في المجتمع المغربي. إن المدرسة تحتاج إلى أن تتحول من مجرد مؤسسة لتلقين المعلومات إلى فضاء تفاعلي من خلاله يمكن للطالب أن يطور فكره النقدي، ويعزز من هويته الوطنية والاجتماعية.

إن مستقبل المدرسة المغربية يعتمد على قدرتها على التكيف مع المتغيرات العميقة في المجتمع، ومن خلال ذلك، يمكن أن تستعيد مكانتها كسلطة رمزية قادرة على تشكيل مستقبل الأفراد والمجتمع. هل يمكن للمدرسة أن تحقق هذه النقلة النوعية؟ إن الإجابة على هذا السؤال ستتحدد بناءً على مدى قدرتها على إجراء إصلاحات حقيقية تتعامل مع القيم المعرفية والتكنولوجية والاجتماعية المتجددة في سياق العصر الحالي.

مقالات ذات صلة

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى