
بقلم: د. عبد الإله طلوع، باحث في العلوم السياسية وقضايا الشباب
منذ ظهور الديمقراطية التمثيلية، ظل المجال السياسي خاضعا لوسائط تقليدية تحدد من يشارك، وكيف، وبأي أدوات. صناديق الاقتراع كانت لحظة التعبير، والأحزاب والمؤسسات الوسيطة كانت بوابة الانخراط والتأثير.
أما اليوم، فنحن أمام مشهد جديد تماما: السياسة تخرج من جدران المؤسسات، وتدخل بلا استئذان إلى شاشات الهواتف، وتُمارس بلغة الصورة، والرمز، والإيموجي، وبسرعة فائقة لا تعترف بالتدرج ولا بالمؤسسات.
منصات التواصل الاجتماعي أعادت تشكيل المجال العمومي. أصبحت الفضاء الرئيسي الذي تعلن فيه المواقف، وتطلق فيه حملات المقاطعة، وتصاغ فيه موجات الغضب، وتتكون فيه تحالفات رأي قد لا تملك تنظيما حقيقيا، لكنها تملك زخما شعبيا لا يمكن إنكاره، ولم تعد وسائل الإعلام التقليدية قادرة على احتكار سرديات الحدث، ولا السياسيون على التحكم في إيقاع النقاش العام.
لكن، وعلى الرغم من هذه الدينامية الجديدة، يظل السؤال المشروع: هل تنتج هذه الطفرة الرقمية رأيا عاما حقيقيا؟ أم أننا إزاء حالة من التفاعل الفوري غير المؤطر، تشبه الضجيج أكثر مما تشبه النقاش العمومي؟
المشاركة السياسية عبر الوسائط الرقمية مكنت فئات واسعة من المواطنين، خاصة فئة الشباب، من التعبير عن آرائهم بطرق كانت مستحيلة قبل عقدين فقط، الشاب المهمّش في منطق التمثيل الحزبي أو الإقصاء الاجتماعي، بات يمتلك منبرًا يعبّر منه، جمهورا يتابعه، و”سلطة رقمية” قد تتجاوز أحيانًا سلطة النائب البرلماني أو رئيس الجماعة. لكن هذه المشاركة، رغم أهميتها، لا تضمن بالضرورة تَمثُّلاً حقيقيًا في دوائر القرار، ولا تؤدي تلقائيًا إلى التغيير المنشود.
المنصات الرقمية تعاني من مفارقة عميقة: فهي مجال مفتوح وحر، لكنها تعج بالسطحية، وتغري بالانفعال، وتشجّع على الفردانية أكثر من العمل الجماعي.
هذا وتحوّل الخطاب السياسي إلى “ترند” لحظي يجعل الرأي العام هشا، يتفاعل مع اللحظة، ثم ينسى بسرعة، وهذا يضعف إمكانية التراكم، ويقوّض فكرة النضال المنظّم، ويحوّل السياسة إلى مجرد ردّ فعل عاطفي، لا إلى فعلٍ مسؤول وواعٍ.
من جهة أخرى، لا يمكن تجاهل أن عددًا من الفاعلين السياسيين – بدل أن يتفاعلوا إيجابيًا مع هذه التحولات – ينزعجون من النقد الرقمي، ويستعملون قوانين زجرية أو لغة التخوين من أجل ضبط هذا الفضاء المتحرر، هذا السلوك لا يعبّر فقط عن خوف من التغيير، بل يعكس ضيقًا بالديمقراطية حين تمارس خارج الأطر التقليدية، وهو ما يطرح على الفاعل العمومي تحدّي الانفتاح على أشكال جديدة من التعبير والمشاركة دون أن يسعى إلى احتوائها أو تقويضها.
إن الديمقراطية في زمن الهاشتاغ لا تعني نهاية السياسة، بل تعني بداية معركة جديدة حول من يعرف الحدث، ومن يصوغ اللغة السياسية، ومن يقود الرأي العام. المعركة لم تعد تدور فقط في البرلمان أو في المجالس المحلية، بل في “فيسبوك” و”تيك توك” و”تويتر”، حيث تتقاطع الخرافة بالحقيقة، والشعبوية بالوعي، والتلاعب بالمشاعر بالتعبئة الحقيقية.
لذلك، المطلوب ليس فقط الاعتراف بالمنصات كجزء من الفضاء السياسي، بل العمل على تحويل التفاعل الرقمي إلى فعل سياسي ناضج، عبر ربطه بالواقع، وتوسيعه بالتنظيم، وإغنائه بالتكوين. الديمقراطية لا تُختزل في “لايكات” و”ترندات”، لكنها اليوم لم تعد ممكنة دون أن تمر من هذه البوابة الرقمية.
ولعلّ التحدي الحقيقي هو كيف نُصغي لهذا الصوت الجديد دون أن نُفرغه من مضمونه، وكيف نحمي حريته دون أن نتركه نهبًا للفوضى؟
إن مستقبل الديمقراطية لا يكمن في استنساخ الماضي، بل في إبداع توازن جديد بين سلطة الشارع، وشرعية المؤسسات، وقوة المنصات. فقط بهذا التوازن، يمكن أن يصنع الرأي العام نفسه من جديد: لا كضجيج عابر، بل كقوة اقتراح وتغيير.