
بقلم الدكتور عبد الإله طلوع، باحث في القانون العام والعلوم السياسية
في كل مرة تستأنف فيها النقاشات العمومية حول الوضع السياسي والاجتماعي بالمغرب، تتكرر نفس العبارات والكليشيهات التي أصبحت تقليدية، تستهلك الوقت والطاقة دون أن تحدث تأثيرا حقيقيا على الواقع، العبارات المعتادة التي ترد في الخطاب العمومي أصبحت تثير الاستفهام أكثر من الإجابة، وتتحول من شعارات مزخرفة إلى مبررات فارغة تدور في فلك الانغلاق الذاتي، عوضا عن أن تكون مدخلا حقيقيا للتغيير.
الخطاب الرسمي: فوضى بين المثالية والواقع
حينما نلقي نظرة على الخطاب العمومي الذي تروج له النخب السياسية في المغرب، نلاحظ تكرارا لأفكار لا تتجاوز حدود التنظير أو تصدير أزمات واقع المجتمع دون تقديم حلول جذرية. من “المغرب النموذج” إلى “التنمية المستدامة” و”الحكامة الجيدة”، تستخدم هذه المصطلحات باستمرار كما لو كانت مجرد أدوات للتجميل دون ترجمتها إلى أفعال ملموسة، مما يجعل هذه الكليشيهات تبدو كعكازات لغوية يركن إليها المسؤولون لتبرير غياب التغيير الحقيقي.
المجالس المنتخبة: محطات عبور لا أكثر
في المجالس المنتخبة، تجد النخب تتحدث عن “إرساء دولة القانون” و”حقوق الإنسان” و”العدالة الاجتماعية”، وكأن هذه العبارات تكفي لتغيير الواقع. لكن الواقع يكشف أن هذه الشعارات لم تؤدِ إلى تغيير فعلي، بل ظلت حبيسة الجدران الإسمنتية للمؤسسات، التي تُدَارُ وفق قواعد لا تتعدى المنطق الإجرائي البسيط. كل شيء يبدو وكأنه تمثيلية، حيث يعاد إنتاج نفس الخطاب، بينما تتسع الهوة بين القيم المعلنة والممارسات على الأرض.
أزمة الديمقراطية الداخلية: التغيير محصور في الشعارات
إن أعمق أزمات الخطاب العمومي في المغرب تكمن في الديمقراطية الداخلية داخل الأحزاب والمجالس. فبينما تتحدث هذه المؤسسات عن “إصلاحات سياسية” و”الانتخابات الحرة والنزيهة”، نجد أن الممارسة الحزبية في عمومها تكشف عن مستوى ضعيف من الديمقراطية الداخلية، حيث تظل السلطة في يد قلة من الأشخاص، وتظل القرارات تتخذ في الغرف المغلقة. تفتقر معظم الأحزاب إلى آليات شفافة لصناعة القرار، مما يؤدي إلى حالة من الاستكانة والفشل في جذب كفاءات جديدة تُحدِث الفارق في الخطاب والممارسة.
الركود بين التكرار والتجديد: أزمة في الخطاب السياسي
إن ما يثير القلق في الخطاب السياسي المغربي هو تكرار نفس الأفكار دون أي تجديد حقيقي. الشعارات نفسها تردد كل يوم، وكأنها لا تتأثر بالزمن أو الظروف المتغيرة. في الوقت الذي يتطلب فيه الواقع المغربي معالجات مبتكرة ومقاربات جديدة تتماشى مع التحديات المعاصرة، نجد أن الخطاب الرسمي يظل محاصرا في جمل بليغة، يحتفظ بها لحظة الحاجة، ثم تختفي مع مرور الوقت لتترك مكانها لكليشيهات جديدة، تفتقر إلى الجدية في التنفيذ.
التغيير يبدأ من الداخل: ضرورة ثقافة جديدة في الخطاب العمومي
إذا كان هناك من مجال للتغيير، فهو في القدرة على تجاوز هذه الكليشيهات التي أضحت جزءًا من واقع الخطاب السياسي. إن هذا التحول لن يتحقق إلا إذا عكفنا على بناء ثقافة سياسية جديدة قادرة على فك الارتباط مع الماضي المتمثل في الشعارات الجوفاء، وتعزيز القيم الديمقراطية الداخلية، وتوسيع دائرة النقاش ليشمل كافة فئات المجتمع، ليس فقط القادرين على صياغة الخطابات الجميلة، بل الأفراد الذين يعانون في صمت من تجاهل السياسات العمومية.
في النهاية، سيظل الخطاب العمومي رهينا بهذه الكليشيهات ما لم تُفتح حوارات حقيقية حول الممارسات السياسية، ويُعزز العمل الجاد من أجل بناء مؤسسات ديمقراطية حقيقية تستطيع التجاوب مع تطلعات المواطنين. إن التغيير الحقيقي يبدأ حين نتجرأ على مواجهة الواقع بشجاعة ونستبدل الشعارات بالبرامج الفعلية.